لعلنا لا نُنكر أن من أهم مميزات الأعمال الفنيّة (سواء كانت أفلام أو مسلسلات) أنها تقدّم لنا ما لا نملكه في حياتنا الواقعيّة، فهناك الخير ينتصر على الشر، ويحصل البطل على غايته، ينتقم ممن آذوه ويكسر أنوفهم عندما يتذوقوا مرارةَ لحمهِ وأنه ليْس كما ظنّوا عنه ..
حتى الأبطال قد لا يعلمون هذا عن أنفسهم، وعن قُدراتهم الحقيقيّة الكامنة داخلهم، ولكنّ أحداث الفيلم والظلم البشع الذي وقع عليهم حوّلهم من أشخاص مُسالمين، لآخرين استطاعوا أن يأخذوا حقهم من فم الأسد.
في البداية نرى أنفسنا فيهم، أشخاص طيبين، ودودين، يمشون جوار الحائط أو بداخله لو كان هذا ممكنًا، أحلامهم بسيطة، طلباتهم لا تُذكر، يرغبون في حياتهم المعتادة ذات التفاصيل الرتيبة، حيث العائلة المُحبّة تحت سقف واحد، ووظيفة بالكاد تُلبي إحتياجاتهم الأساسية.
وفي نفس الوقت نعلم كذلك أن طبيعتنا تلك تجعلنا فريسة سهلة للآخرين، مُحفّزةً إياهم لاستغلالنا أو إيقاع الشر بنا في أي مناسبة، فنُحن لا نساوي لديهم أكثر من عقب سيجارة مُلقى بلا فائدة، لذا من السهل مثلاً تلفيق جريمة والزج بنا فيها، من السهل قتل أحد أفراد عائلتنا، والاحتمالات لا نهائيّة، مما يجعلنا متوحّدين مع بطل القصة المغلوب على أمره، لأننا نعلم في قرارة أنفسنا أنه من السهل أن نتعرّض لنفس الظلم في أي وقت.
وبيْنما في واقع الأمر تتوقّف قدراتنا عند هذا الحد، نتلقّى الظلم فقط، لا توجد لدينا الوسائل ولا الإمكانيات ولا الذكاء الذي يمكّننا من قلب الطاولة في انتقام أسطوري يُناسب قوة الظلم الواقع علينا، هنا يأتي الفيلم لينتقم لنا في صورة البطل.. لكننا حينها ننفصل تدريجيًا عنه، ويغدو ما يحدث من الآن فصاعدًا على الشاشة ما هو إلاّ مجرد “fiction/ خيال”، لم يعد هذا البطل “نحن”، قد نندمج مع حكايته للنهاية ولكن تظل هذه هي حكايته هوَ لا حكايتنا، لذا سيكون هو البطل والمُنقذ الذي يُحقق ما يجول في خاطرنا ونعجز عن تحقيقه.
إلاّ أن الموضوع ليْس بالسهولة التي يبدو عليها..
حينما تحارب الوحوش كُن حذرًا ألاّ تُصبح واحدًا منهم !
هاهو بطلنا المغلوب على أمره قد تحوّل فجأة بعدما تم شحنه بجرعات مكثفة من الأذى إلى آلة انتقام، ومهما كانت سُلطتهم و جبروتهم، دائمًا هناك طريقة ذكية فذّة للنيْل منهم، فيبرّد قلوبنا ويشفي غليلنا، متحمّسين مع البطل المظلوم الذي يقتلع حقه – وحقنا – من الأشرار، فنطمح أن نكون مثله، مهما وصلت درجات الانتقام من دمويّة وعنف، فهوَ الفكرة والمثال الذي تعلمنا أن نتقبّله بهذا الشكل النموذجي للإنتصار.
ولكن ما قد ننساه بدون قصد، أن البطل ههنا تغيّرت دواخله تمامًا قبل أن يظهر ذلك جليًّا على مظهره الخارجي وتصرفاته، فقوّة القهر والألم وكذلك الغضب يمكنها أن تغيّر تركيبتك بالكامل لكي تصبح “مثلهم”، هؤلاء الذين آذوك وأفسدوا حياتك، لتجد نفسك وقد بدأت اللعب على نفس طاولتهم وبنفس أدواتهم..
قد تكون انتقمت فعلاً، لكنهم كذلك فازوا عليك، لأنك أصبحت واحدًا منهم في الختام، لم تستطع التوقّف عند لحظة القصاص تلك بل تجاوَزتها بأشواط عديدة، مرتكبًا المزيد من الجرائم والانتهاكات بشكلٍ لم يعد من الممكن معه العودة لما كانت عليْه نفسك سابقًا! فهل انتصرت حقًا ؟
إذا راقصتْ الشيطان يوْمًا، فالشيطان لن يتغيّر، بل سيُغيّرك أنت !
لا أحد يتعاوَن مع الشيطان إلاّ ويعلم جيدًا أن روحه لم تعد مِلكه، بل هي أسيرة هذا العهد الذي كتبتهُ نار الإنتقام.
وفي الواقع ولسنوات طويلة كان ما علّمته لنا العديد من الأفلام – خصوصًا الأمريكية – ، أنه وقت الخوف الشديد أو الغضب العارم ينسحق كل شيء، ولا يعود هناك فاصل وسننزلق جميعا في الوَحل..
وهذا ما يُفسر الكثير من المعتقدات المُشوّهة والقسوة التي عَلَت القلوب، فهناك مَن يبثّ لك باستمرار حقيقة “أنك عندما تحين الفرصة ستتحوّل لوحش” وأن أخلاقك ومبادئك الذيْن عشت عليهم طوال عمرك ما هم إلاّ مجرد قشرة ستنهار مع أول إحتكاك..
وهذا ما سيتجلّى في مشاهداتنا للعديد من الأعمال الفنيّة التي تناولت الحروب والكوارث الطبيعية والجرائم ، حيثُ تعم الفوضى والسرقات ولا أحد يساعد أحد، فالخوف صنّف الناس إما لأسود ستهاجم أو أغنام ستؤكل، لذا كان تصرّف بلد مثل اليابان وقت الزلزال الكبير في عام 2011 صدمة وصفعة للجميع، حيث كان الشعب – للمفاجأة – متعاون ومتراحم فيما بينه، الكل يدعم ويساعد ويتحرك بهدوء وحِكمة، لم تحدث سرقات، لم تعم الفوضى رغم أن البلاد كان يُعاد تهئيتها بالمعنى الحرفي للكلمة والكارثة لا تتحمّلها العقول.
مما جعلنا نُعيد النظر في الكثير من الأمور حولنا، هناك في الحقيقة نظرةٌ أخرى لكيفيّة التصرف في تلك الأوقات، وأن التحوّل لأسوأ نسخة منك ليس خيارًا مُطلقًا لا مفرّ منه كما كنا نتخيّل، وكما كان يُنقل إلينا عبر القصص الكثيرة للمُنتقمين..
ومن ضمن النماذج الفنيّة الآسرة التي سأتناولها ههنا، نموذجين منحتنا فيه الشخصيّات الرئيسيّة تصوّرًا آخر عن البطولة، الشجاعة، وحتى عن الإنتقام!
بطلاتنا “كاتنيس” من سلسلة أفلام The Hunger Games ( وقامت دورها جينفر لورنس Jennifer Lawrence )، و ” سيدني” من مسلسل Alias (وقامت بدورها جينفر جاردنر Jennifer Garner ) اللتيْن رغم كونهما مختلفات في طرق حياتيهما، وفي قصصهم، وفي سمات كثيرة، ولكنهما متشابهتيْن في شيء واحد، وهو أنهما ظلّتا محتفظتيْن بطبيعتهما الإنسانية الطيّبة التي لم تتغير طوال معركتهم مع الظلم والقتل والأذى.. ورغم امتلاكهم الوسائل الفعليّة لذلك، فشخصياتهما على قدر كبير من المهارة والذكاء والقوة، إلاّ إنهما تميّزتا بقدرتهما على اختيار طريق آخر غير السائد.
كانتا تسعيان للإنتقام مجبرات، لكنهما في نفس الوقت اختارتا أفضل الطرق رافضات أن تكون الغاية مبررهم في استخدام وسائل مجحفة، أو أن يتخلل ذلك الكثير من القتل والتعذيب كأنه من الطبيعي أن تكون تلك من فقرات الإنتقام، ومن يفعل غيرها يعتبر آثم.
تُحاولان دائمًا وضع الفاصل الإنساني أمام أعينهم، أنهم آدميين في نهاية الأمر، أنهم ليسوا قتلة ولا سفاحين، ولن يصبح دم الناس وحياتهم مجرد show يثير الحماس لتحقيق مبيعات أكثر وشهرة أكبر.
كانتا تعبّران عن مخاوفهما بوضوح، تبكيان، تتأثران بالموت وهيبته، يخترن إيقاف المُهاجم بعرقلته أو بإصابة يمكنه النجاة منها، تتفهمان أن من يحاربوهم هم مجرد أدوات وليسوا السبب الرئيسي.
فتجد أنك لا تنساهم أبدًا مهما شاهدت من أبطال ومنتقمين، تاركين بداخلك مشاعر متعلقة بكونهما شخصيّات استثنائية، تلوّثت أرواحهم بالظلم والإنتقام والمعارك أي نعم، ولكن ظل بداخلهم ضوْءهم القديم.
فتتساءل حينها ما هيَ القوة التي امتلكاها لكي تستطيعا التحكّم في أنفسهما ومنعها من الإنزلاق في القسوة والجبروت وتدمير كل شيء؟ ، وبينما سيكون لديهم الداعي المنطقي من وجهة نظرنا حينها ، وبينما هُم في عالم قاسي مُخيف يُشجّع على ذلك ولا يستنكره، إلاّ إنهم اختاروا الخيار الأصعب، أن يكونوا بشرًا في عالم من الوحوش..
شاركونا نماذج أخرى من أفلام أو مسلسلات لشخصيّات اختارت الإبقاء على إنسانيتها ؟
——————
تعاون بين وبين أختي – نشرت من قبل في مجلة “اراجيك AraGeek” منذ عدة سنوات
أختلف معك يا صديقتي. الانتقام قوة حارقة دائماً ما تحرق أرواح من يتسلحون بها، وربما كان أبرز أسباب ذلك هو أن الانتقام لا يعيد ما فقدناه.. فنكتشف أننا -بعد إشباع شهوة الانتقام- لم نحقق شيئًا سوى توسيع دائرة الدمار.
لست طوباوياً ولا أدعو الناس إلى أن (من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر).. بل أنا من أنصار الانتقام! على أن تكون واعياً لعواقبه.
منورني هنا يا صديقي الجميل
أنا احترت في ردك .. لأنه إحنا بنتكلم عن نفس الموضوع يا عزيزي، استأذنك بمراجعة كامل المقالة
فأنا لا ألغي الانتقام ولا أن نتسامح في كل الأحوال .. بل أن يكون هذا الإنتقام واعي .. وليس الفُجر في الخصومة لمجرد أنه نستطيع