مسرحية : زي الناس

في الموعد تقابلنا أنا وصديقتي وشقيقتي لحضور مسرحية “زي الناس” المأخوذة عن  مسرحية عالمية باسم “القاعدة والاستثناء” للكاتب الكبير برتولد بريخت ..  حيث كان آخر عرض لها يوم الخميس 10 نوفمبر …

كانت تلك هي المرة الأولى التي أدخل فيها دار الأوبرا، وكنت مُتحمسة لهكذا تجربة .. والحمد لله إنه لم يُطلب منا إرتداء ملابس رسمية لدخول العرض، فالعرض سُيقام على مسرح “مركز الإبداع الفني” .. والعرض مجاني وهذا شيئ له بالغ التقدير والإحترام .. فتقديم الفنون بشكل مجاني لكل فئات الشعب يُحسّن من قدرتنا على التذوق، والمعرفة واكتشاف العوالم.

ولكن مأساة كل ما هو محدود، وأيضًا مجاني إنه سيتطلب منك الحضور قبل العرض بساعات لكي تقف زنهار كعسكري الحراسة على أمل ” إن الخروجة متتضربش وترجع بجزّامة حُنيْن كلها مش بس خُفّيه” .. وهو ما أتمنى إنه في يوم ما يستطيع أحدهم أن يتفتق ذهنه عن فكرة لا تتكلّف كل هذا العناء بداية من الوقوف لمدة طويلة وانتهاءً بالفشل في الحصول على تذكرة لنفادها.

دار الأوبرا بدت كـ عجوز فقدت بهاءً لم أعرفه يومًا ولكنها مازلت تحتفظ ببعض الحلاوة من هنا وهناك،  والتي تدل على كونها كانت يومًا شابة جميلة، أنيقة .. لتكتمل اللوحة الكئيبة التي ترتسم على كل ملمح في مصر  .. حاولت إلتقاط بعض الصور للإضاءات وانعكاساتها كمحاولة مني أن أتلمّس ذلك الجمال الراقي القديم قبل أن تتحوّل لشكلها الحالي.

عند باب المسرح كانت الصدمة التي جعلتني أفيق على فكرة أن الشعب بالفعل مُصاب بمشكلة عقلية وأخلاقية لا جدال فيها، فلا يفرق أنه الآن في “الأوبرا” بجلالة قدرها ليحضر عرض مسرحي راقي، وبيْن قعدات المصاطب والقهاوي !

فلقد كانوا كالمجانين الذين يصرخون بدون داعي، يتشاجرون بوقاحة مع أقل تحرّك كأنهم في حالة تحفز دائم والدماء تغلي تحت جلودهم ويوشكون على الإنفجار في أي لحظة .. حاولت أن أفهم ما كل هذا الكُره والغضب رغم إنهم لا يعرفون بعضهم البعض ولكن لا فائدة ..

المسئولون عن ادخال الزوار أيضًا لا يتعاملون بحكمة أو إحترافيّة (كـ ديْدن موظّفي خدمة العُملاء في مصر للأسف ! )  ولا يُحاولون توضيح ذلك السبب المجهول الذي يجعلهم يتأخرون في عملية التفتيش (والتي يقوم بها شخص واحد فقط بالمناسبة)، فيتكوّم الناس عند المضيق الواقع بين المدخل ومنطقة التفتيش لينفعل الحاضرون ويصرخون أن ” مالهم بيتحركوا على قشر بيض كدة ليه؟” .. تنتهي عملية التفتيش العقيمة العتيقة التي يجب عليك قبلها أن تمر على بوابة الكترونية تُصفّر بلا انقطاع.. لتجد نفسك أمامك عدة أبواب تعرف البوابة الصحيحة بالتخمين حتى تدخل القاعة ..

المقاعد مُزعجة جدا وتكسر الضهر .. ولكن ما يهوّن علينا هو أبطال العرض الرائعين..

فلقد كانت مسرحية ممتعة بحق، تجمع بين الفُصحى المُحبّبة وأريحيّة العاميّة، حوار المسرحية وحكاوي الابطال مع الجمهور وتفاعلهم معهم، وذلك في دمج جميل راقي ..

طريقة عرض المسرحيّة كانت تفاعليّة غير تقليديّة، فكان هناك تضفير ما بين سرد المسرحية والحوارات وبين كواليس العمل بين الممثلين والتواصل مع الجمهور، وكانوا ينتقلون بسلاسة بين تلك الأجزاء بشكل رائع لا يُخرجك عن اندماجك أو يُفسد عليك متعة المشاهدة.

كل شخص في المسرحية بذل جهده بالفعل، بداية من مخرج العمل “هاني عفيفي” مرورًا بالممثلين ونهاية بالعازفيْن وتصميم الملابس واللوحات التي كانت تُرسم على المساحة البيضاء خلف المشهد.

القصة تحكي عن تاجر جشع (يقوم بدوره:هشام إسماعيل)، يحارب لأجل الوصول سريعا لمكان بئر بترول تم اكتشافه حديثًا في بلدة بعيدة .. الطريق لها طويلة لذا كان لابد من “دليل لطريقه” (ماهر محمود) وحمّال (شادي عبدالسلام) يحمل الأمتعة له .. تبدأ الرحلة الصعبة التي يظهر فيها كيف أن الإنسان يمكنه أن يكون عنصري قميء لا يرى غير نفسه، وأن الآخرين ما هُم إلا حثالة لا يرقون لمستواه ولا يصلحون للحياة ولا لأي شيء سوى أن يكونوا عبيدًا يتم استخدامهم للوصول لمبتغاه مهما تكلّف الأمر .. ينتهى الأمر بقتل الحمّال .. فتُقام محاكمة يرأسها القاضي (أحمد السلكاوي) وبحضور الشهود، زوجة الحمّال (سارة هريدي) .. رئيس القافلة الثانية (كريم يحيى) وأخيرًا مدير الفندق (سارة عادل) – ايوة فعلا زي ما قرأتم الاسم، إنها بنت  بس المخرج مازال مقتنع إنها تنفع تعمل الدور 😛 –

المسرحية تُحدثنا عن الأمور التي اعتدنا عليها فأصبحت بديهيات بدون النظر في كونها أمور صحيحة وإنسانية أم لا .. فأصبح من الطبيعي والمُعتاد أن نعامل بعضنا البعض بسوء، أن نؤذي بعضنا البعض وأن نُبرّر تلك التصرفات البشعة بكل الطُرق حتى نُريح ضميرنا .. فنحن نضرب هذا الطفل لإنه لم يسمع الكلام وأخطأ .. ننصب على فلان لأنه ساذج ولم يُطاردنا ويخوّننا ويُسجّل خلفنا ويعدّ أنفاسنا ..  نشتم تلك الفتاة ونتهمها ظُلمًا أنها أرادت لنفسها التحرّش وقلة القيمة لمجرد إنها خرجت للشارع …. الخ.

وعندما يتعامل معنا شخص بطيبة وإنسانية، نعتبره ساذج/أهبل أو خبيث نخاف منه ونتوقع السيئ والأذى ..

ليس كل ما هو مُتعارف عليه بين الناس هو القاعدة بكل هذه الغباوة والكراهية والبُغض .. بل علينا أن نُفسح الطريق للإستثناءات التي تحاول أن تظهر على الساحة، لنرى بشكل آخر.

تتركك  المسرحيّة حائرًا بقرار القاضي في النهاية .. كيف يمكن لقاتل أن يحصل على براءة ؟ وأن يكون القتيل هو المذنب كونه خالف القاعدة وكان هو الاستثناء “الإنساني”؟.

ملحوظتي كانت عن اللوثة التي أصابت الجمهور .. فلقد كان هناك من يضحك بقهقهة في مشاهد ضرب الحمّال، أو أي أهانة يُطلقها التاجر لأي مخلوق حوله !! .. لم أفهم بالضبط ما هي مشكلتهم فعليًا .. هل يفهمون يا تُرى تلك التصرفات التي تحدث أمامهم؟، هل هم بكامل قواهم العقلية؟ .. ثم تذكرت أنهم أنفسهم الذين كانوا يتشاجرون بهمجية عند المدخل، وهم أنفسهم الموجودين في الشوارع المصرية الممتلئة بالقبح والذل، حيث تُهان كرامتنا كبشر بمُعدلات تفوق الخيال في اليوم الواحد .. فأصبح لديهم بلاهة ناحية العنف والإهانة وتعتبر مصدر للقهقهة ..

لقد آذاني أن الممثلين يستطيعون رؤية تصرفات الجمهور غير المسئول، بداية من رنين هواتف المحمول التي طالبونا في بداية العرض بلطافة وبعض المرح أن نُغلقها ولكن طبعا لا حياة لم تنادي – كان من باب أوْلى قفلوها في الطيارة وقت الاقلاع والهبوط رغم التحذيرات من إنها أمور تهدد الحياة !- نهايةً بالتعليقات الجانبية، والثرثرة …الخ.

لقد تعامل الممثلون بطريقة ذكيّة و لطيفة للغاية مع كل شيئ حدث، لقد تجاهلوا بعض الأمور، وتفاعلوا مع بعضها بالمزاح علشان تعدّي …

( كريم وسارة) كانا كالترس الذي يُوضع في أكثر من موْضع للآلة لكي تُعطي صورًا مختلفة ومُتنوّعة، وكان وجودهم مميّزًا للغاية فعلاً.

كانت تجربة رائعة وممتعة، أدين بكل الشكر لكل صُناع العمل .. لقد وددت من كل قلبي أن أنزل لتحية كل فرد فيها بالسلام باليد والانحناءة اليابانية القديرة كِناية عن الشكر والإمتنان من أجل تلك اللحظات التي قضيتها معهم .. ولكن للأسف بمجرد انتهاء العرض خرجوا جميعًا للكواليس ولم أستطع اللحاق سوى بمخرج العمل الذي أصريت كخرتيت أن أشكره أنا وأختي وصديقتي.

Leave a Comment